فصل: باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، وقد وجب فيه العشر، أو الصدقة، فأدى الزكاة من غيره أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المتواري على أبواب البخاري



.كتاب العمل في الصلاة:

.باب إذا قيل للمصلي: تقدم، أو انتظر، فانتظر فلا بأس:

فيه سهل بن سعد: كان الناس يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم فقيل للنساء: لا ترفعن رءوسكن، حتى يستوي الرجال جلوساً.
قلت: رضي الله عنك! إن قلت ما في هذه الترجمة من حيث الفقه؟
قلت: فيها التنبيه على جواز إصغاء المصلي في الصلاة، إلى الخطاب الخفيف، وتفهمه، والتربّص في أثنائها لحق غيره، ولغير مقصود الصلاة. فيؤخذ من هذا صحة انتظار الإمام في الركوع للداخل، حتى يدرك الإحرام والركعة معه، إذا كان ذلك خفيفاً، ويضعف القول بإبطال الصلاة بذلك. بناءً على أن الإطالة، والحالة هذه، أجنبية عن مقصود الصلاة. وهذا كله على أن النساء قيل لهن في الصلاة: لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال. ويكون القائل في غير صلاة. وإن كان مالك قد نص في مشهور قوله على أن الإمام لا يطيل، لإدراك أحد. وقال سحنون: إن فعل أبطل فينبغي أن يحمله من قولهما على الإطالة المتفاحشة لا المتقاربة. والله أعلم بمرادهما من ذلك.

.كتاب الجنائز:

.باب ذكر شرار الموتى:

فيه ابن عباس: قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد: 1]. إن قلت: هل أراد في الترجمة العموم، حتى في الفاسق، والكافر أو الخصوص بالكافر؟.
قلت: يحتمل أن يريد الخصوص، فتطابق الآية الترجمة. ويحتمل أن يريد العموم، قياساً لمسلم المجاهر بالشر على الكافر، لأن المسلم الفاسق لا غيبة فيه. وقد حمل بعضهم على البخاري، أنه أراد العموم، فظن به النسيان لحديث أنس المتقدم: «مر بجنازة». الحديث.
وقال: هكذا كان أولى بالترجمة من هذا الحديث الذي تضمنه. والظاهر أن البخاري جرى على عادته في الاستنباط الخفي، والإحالة في الظاهر الجلي على سبق الأفهام إليه، على أن الآية مرتبة. وهي تسمية المذموم والغيبة وخصوصاً في الكتاب العزيز الذي يبقى ولا يفنى آخر الدهر.

.كتاب الزكاة:

.باب لا يقبل الله صدقة من غلول:

لقوله عز وجل: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} [البقرة: 263].
قلت: رضي الله عنك! إن قلت: ما وجه الجمع بين الترجمة والآية، وهل لا ذكر قوله: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} [البقرة: 267].
قلت: جرى على عادته في إيثار الاستنباط الخفي، والاتكال في الاستدلال بالجلي على سبق الأفهام له. ووجه الاستنباط يحتمل أن الآية لها إثبات الصدقة، غير أن الصدقة لما تبعتها سيئة الأذى بطلت. فالغلول غصب إذا فيقارن الصدقة فتبطل بطريق الأولى. أو لأنه جعل المعصية اللاحقة للطاعة بعد تقررها، وهي الأذى، تبطل الطاعة. فكيف إذا كانت الصدقة عين المعصية لأن الغال في دفعة المال للفقير، غاصبٌ متصرف في ملك الغير، فكيف تقع المعصية من أول أمرها طاعة معتبرة، وقد أبطلت المعصية الطاعة المحققة في أول أمرها في الصدقة المتبعة بالأذى؟ وهذا من لطيف الاستنباط، وخفيه. والله أعلم.

.باب العشر في ما يسقي من السماء والماء الجاري:

ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئاً.
فيه عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر».
قلت: رضي الله عنك! ذكر العسل في الترجمة تنبيه على أن الحديث ينفي وجوب العشر فيه، لأنه خص العشر، أو نصفه بما يسقي، فأفهم ذلك أن ما لا يسقي لا يعشر. ويقوى المفهوم فيه على طريقة الإمام بتقديم الخبر على المبتدأ، نحو صديقي زيد، في حصر إجابة العشر فيه.

.باب صدقة التمر عند صرام النخل، وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة:

فيه أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل، فيجيء هذا بتمره، وهذا بتمره حتى يصير كوماً من تمر فجعل الحسن والحسين- رضي الله عنهما- يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه. فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجها من فيه فقال: «أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة».
قلت: رضي الله عنك! مدخل ترك الصبي في الفقه، التنبيه على الاعتدال في تأديب الأطفال، لأنه فسح لهم في بعض المعلب، ولم يفسح لهم في الأكل، لأنه محرّم على جنسهم ففسح له النبي صلى الله عليه وسلم في مس التمر، فلما هم بالأكل منعه، ولم يفسح له فيه، وإن كان غير مكّلف.
وفيه حجة لوجوب منع ولي الصغيرة إياها من الطيب ونحوه وإن وجبت عليها عدة وفاة، خلافاً لمن أنكر ذلك بناءً على أنها غير مكّلفة.

.باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، وقد وجب فيه العشر، أو الصدقة، فأدى الزكاة من غيره أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة:

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها، فم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب».
فيه ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة، حتى يبدو صلاحها، وكان إذا سئل عن صلاحها، قال: «حتى تذهب عاهتها».
وفيه أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قال: وما تزهي؟ قال: «حتى تحمارّ».
قلت: رضي الله عنك! مدخل الترجمة في الفقه، جوازُ بيع الثمرة التي وجبت زكاتها قبل أداء الزكاة. ويتعين حينئذٍ أن تؤدي الزكاة من غيرها، خلافاً لمن أفسد البيع، ووجه الاستدلال إجازته للبيع بعد بدو الصلاح. وهو وقت الزكاة ولم يقيّد الجواز بتزكيتها من عينها، بل عّم وأطلق في سياق البيان.

.باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا:

فيه ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فإذا هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
قلت: رضي الله عنك! قوله في الترجمة: حيث كانوا تنبيه حسن على مسألة فقهية، وهي أنّه هل يجوز نقل الزكاة من بلد إلى آخر؟ قيل بجوازه وبمنعه، وبجوازه إذا فدحت حاجة غير البلد. واختار البخاري الجواز مطلقاً،. لأن الضمير في الجميع يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردّت فيه الصدقة في أي جهة كان، فقد وافى عموم الحديث. فتأمله.

.باب ما يستخرج من البحر:

وقال ابن عباس ليس العنبر بركاز، إنما هو دسره البحر. وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس. وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس ليس في الذي يصاب في الماء.
فيه أبو هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً من بني إسرائيل سأل آخر من بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فدفعها إليه فخرج في البحر، فلم يجد مركباً. فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار، فرمى بها في البحر، فخرج الرجل الذي كان أسلفه. فإذا بالخشبة فأخذها لأهله حطباً- فذكر الحديث- فلما نشرها وجد المال».
قلت: رضي الله عنك! موضع الاستشهاد في حديث الخشبة، ليس أخذ الدنانير، وإنما هو أخذ الخشبة على أنها حطب، فدلّ على إباحة مثل هذا ما يلفظه البحر، إما مما ينشأ في البحر كالعنبر، أو مما سبق فيه ملك، وعطب، وانقطع ملك صاحبه منه، على اختلاف بين العلماء في تملك هذا مطلقاً ومفصلاً. وإذا جاز تملك الخشبة، وقد تقدم عليها ملك، فتملك نحو العنبر الذي هو في مخلوقات البحر، ولم يتقدم عليه ملك، أولى.

.باب قول الله عزّ وجلّ: {والعاملين عليها} [التوبة: 60] ومحاسبة المصدقين للإمام:

فيه أبو حميد: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه.
قلت: رضي الله عنك! مدخل المحاسبة في الفقه إلزام العامل في القراض ونحوه من الأمناء على الأموال بإقامة حسابها، ولا ينافي ذلك ائتمانهم عليها، لأن المحاسبة تظهر الأمانة المسقطة للضمان من التعدي الموجب له فوجبت إذا دعي إليها. وعندنا في مثله خلاف. والله أعلم.

.باب الصدقة قبل العيد:

فيه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس، إلى الصلاة.
وفيه أبو سعيد: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر، صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر. قال أبو سعيد: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين.
قلت: رضي الله عنك! موضع الترجمة من الحديث قوله: «يوم الفطر»، فدخل فيه ما قبل صلاة العيد إلى طلوع الفجر، وهو أول اليوم، دلّ أنه داخل في وقت إخراجها. والله أعلم.

.كتاب الصوم:

.باب اغتسال الصائم:

وبلّ ابن عمر ثوباً، فألقاه عليه وهو صائم.
ودخل الشعبي الحمام وهو صائم.
وقال ابن عباس: لا بأس أن يتطعم القدر، أو الشيء.
وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم.
وقال ابن مسعود: إذا كان يوم صوم أحدكم، فليصبح دهيناً مترجلاً.
وقال أنس: إن لي أبزن أتقحم فيه، وأنا صائم.
وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخره.
وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب. قيل له: له طعم. قال: والماء له طعم، وأنت تتمضمض به.
ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل بأساً.
فيه عائشة وأم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان جنباً من غير حلم فيغتسل ويصوم.
قلت: رضي الله عنك! ردّ على من كره اغتسال الصائم، لأنه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه، فالعلة باطلة بالمضمضة، وبالسواك، وبذوق القدر، ونحو ذلك. وإن كرهه للرفاهية، استحب السلف للصائم الترفه، والتجمل، وبالترجل والادهان. وأجازوا الكحل، وغير ذلك. فلذلك ساق هذه الأفعال تحت ترجمة الاغتسال.

.باب الصائم إذا أكل وشرب ناسياً:

وقال عطاء: إن استنثر فدخل الماء حلقه، فلا بأس.
وقال الحسن: إن دخل حلقه الذباب، فلا شيء عليه.
وقال الحسن ومجاهد: إن جامع ناسياً، فلا شيء عليه.
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نسي فأكل وشرب، فليتّم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه». قلت: رضي الله عنك! إدخال المغلوب تحت ترجمة الناسي، لاجتماعهما في سقوط الاختيار ورفع الإثم.

.باب السواك الرطب واليابس للصائم:

ويذكر عن عامر بن ربيعة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي. وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء». ويروي نحوه عن جابر، وزيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخص صائماً من غيره.
وقالت عائشة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب». وقال، عطاء وقتادة: لا يبتلع ريقه.
وفيه عثمان: إنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر. الحديث.
قلت: رضي الله عنك! أخذ البخاري شرعية السواك للصائم، بالدليل الخاص، وهو حديث عامر. ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تتناول أحوال متناول السواك مطلقاً: صائماً ومفطراً، وأحوال عود السواك من رطوبة ويبس ثم انتزع ذلك من أعم من السواك، وهي المضمضة، إذ هي أبلغ من السواك الرطب. وأصل هذا الانتزاع لابن سيرين. قال محتجاً على السواك: والماء له طعم.

.باب صيام الأيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة:

فيه أبو هريرة: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على الأيام البيض، وذكر حديثاً في صوم ثلاثة من كل شهر مطلقاً. وقد وردت أحاديث في تخصيص الأيام البيض، فنبّه بالترجمة على أن الأحوط للمتطوع أن يخص الثلاث بهذه الأيام البيض، ليجمع بين ما صحّ وما نقل في الجملة، وإن لم يبلغ مرتبة هذا في الصحة.

.باب من أراد أن يعتكف، ثم بدا له أن يخرج:

فيه عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها. وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها. ففعلت. فلما رأت ذلك زينب، أمرت ببناء فبنى لها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فأبصر الأبنية. فقال: ما هذا؟ فقالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟ ما أنا بمعتكف». فرجع فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال.
قلت: رضي الله عنك! رفع البخاري إشكال الحديث في الترجمة، ونبه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الاعتكاف بعد أن دخل فيه. وإنما هّم به ثم عارضه معارض فتركه. وقولها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى البناء، أوّل ما بنى له قبل الاعتكاف، والأصح- والله أعلم- أنه كان يبنى له في كل عام خباء، فينصرف من الصلاة، فيدخله. فقولها: كان إشارة إلى عادته قبل هذا العام. والله أعلم.

.كتاب المناسك:

.باب في الحج من أهلّ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم:

قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه جابر: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا- رضي الله عنه- أن يقوم على إحرامه، وذكر قول سراقة. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بما أهللت يا علي؟» قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «فأهد وامكث حراماً، كما أنت».
وفيه مروان الأصفر: عن أنس قال: قدم علي على النبي صلى الله عليه وسلم، من اليمن. فقال له: «بم أهللت؟» فقال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «لولا أن معي الهدى لأحللت».
وفيه أبو موسى: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن، فجئت وهو بالبطحاء. فقال: «بم أهللت؟» فقال: أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «هل معك من هدى؟» قلت: لا. قال: فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة. ثم أمرني فأحللت، فأتيت امرأة من قومي، فمشطتني وغسلت رأسي. فقدم عمر فقال: إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمر بالتمام. قال الله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} [البقرة: 196] وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لم يحلّ حتى نحر الهدي.
قلت: رضي الله عنك! كأنّ البخاري لما لم ير إحرام التقليد ولا الإحرام المطلق، ثم تعين بعد ذلك، أشار في الترجمة بقوله: باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كإهلاله صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا خاص بذلك الزمن، فليس لأحد أن يحرم الآن بما أحرم به فلان، بل لابد أن يعين العبادة التي نواها. ودعت الحاجة إلى الإطلاق، والحوالة على إحرامه صلى الله عليه وسلم، لأن عليا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام، فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الآن فقد استقرّت الأحكام وعرفت كيفيات الإحرام. ومذهب مالك على الصحيح جواز ذلك. وأنه ليس خاصًّا بذلك الزمان. والله أعلم.

.باب قول الله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 37] الآيات، وقوله عز وجل: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة: 97] الآية:

فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخّرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة».
وفيه عائشة: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تستر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من شاء فليصمه ومن شاء فليتركه».
وفيه أبو سعيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليحجّن البيت، وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج». وروي شعبة عن قتادة: «لا تقوم الساعة حتى لا يحجّ البيت». والأول أكثر.
قلت: رضي الله عنك! إنما أدخل خبر ذي السويقتين تحت الترجمة بالآية، ليبين أن الأمر المذكور مخصوص بالزمن الذي شاء الله فيه الأمان. وإذا شاء رفعه عند خروج ذي السويقتين ثمّ إذا شاء أعاده بعد. والله أعلم.

.باب كسوة الكعبة:

فيه عمر: إنه جلس على الكرسي في الكعبة. وقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلاّ قسمته.
قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: هما المرءان أقتدي بهما.
قلت: رضي الله عنك! يحتمل أن يكون مقصوده بالترجمة، التنبيه على أن كسوة الكعبة مشروع ومأثور، فيحتج لذلك بأنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على معنى الزينة والجمال، إعظاماً لحرمتها في الجاهلية والإسلام، فالكسوة من هذا القبيل. ويحتمل أن يريد التنبيه على حكم الكسوة، وهل يجوز التصرف فيما عتق من الكسوة بالقسمة، كما يصنعونه، أم لا؟ فنبّه على أنه موضع اجتهاد. وأن مقتضي رأى عمر- رضي الله عنه- أن يقسم في المصالح. ويعارض رأيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر- رضي الله عنه- لقسمتها. فذلك في محل الاجتهاد وتعارض الأمانات. والظاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ بقاؤها تعريض لإتلافها، بخلاف النقدين ولا جمال في كسوة مطوية عتيقة. ويؤخذ من قول عمر- رضي الله عنه- أن صرف المال في المصالح، كالفقراء والمساكين، أكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم. إذ الأمور المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار ترك الكسوة في العرف غضاً من الإسلام، وإضعافاً لقلوب المسلمين، فترجحت على الصدقة بمثل قيمتها. والله أعلم.

.باب إغلاق البيت، ويصليّ في أي نواحي البيت شاء:

فيه ابن عمر: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت هو، وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم الباب، فلما فتحوا كنت أوّل من ولج، فلقيت بلالا، فسألته هل صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! بين العمودين اليمانيين.
قلت: ليس على معنى التحديد وإنما هو اتفاق، ووجهاته متساوية من باطنه، كما هي متساوية من ظاهره. أينما صلى إليها، فهي قبلة. والله أعلم.

.باب من كبر في نواحي الكعبة:

فيه ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت، وفيه الآلهة. فأمر بها، فأُخرجت، فأَخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل، في أيديهما الأزلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله! أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط». فدخل البيت، فكبر في نواحيه، ولم يصلّ فيه.
قلت: رضي الله عنك! ساق البخاري هذا الحديث، وأثبت فيه التكبير في نواحي الكعبة، ولم يثبت به معارضة الحديث المتقدم في الصلاة، لأن هذا ينفي الصلاة، وذلك أثبتها، والمثبت أولى. وكذلك هذا أيضاً أثبت التكبير في نواحيها، وسكت عنه الحديث الآخر، فلا يعارض الثبوت السكوت. فالجمع بينها أن يكبر في نواحيها، ويصلّي في أيها شاء. والله الموفق.

.باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين:

فيه جابر بن زيد: أبو الشعثاء قال: ومن يتقي شيئاً من البيت؟ وكان معاوية يستلم الأركان. فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم هذان الركنان فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً. وكان ابن الزبير يستلم الأركان.
وفيه ابن عمر: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.
قلت: رضي الله عنك! رجح البخاري اختصاص اليمانيين بالاستلام، فلهذا ترجم على اختصاصهما، وساق القولين المتعارضين عن الصحابة في التعميم والاختصاص. فنبّه بالترجمة على أن الاختصاص مرجّح لأن مستنده السنة في ترك ما عداهما. ومستند التعميم الرأي، وقياس بعضها على بعض في التعظيم، وهو معنى قول معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً. وهذا يقال بموجبه وليس ترك الاستلام هجراناً وكيف يهجرها، وهو يطوف بها؟ فالحجة مع ابن عمر أظهر. والله أعلم.

.باب إذا وقف في الطواف:

وقال عطاء في من يطوف فتقام الصلاة، أو يدفع عن مكانه: إذا سلّم يرجع إلى حيث قطع عليه. فيبني. ويذكر نحوه عن ابن عمر. وعبد الرحمن ابن أبي بكر: طاف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى لسبوعه ركعتين.
وقال نافع: كان ابن عمر يصلّي لكل أسبوع ركعتين.
وقال إسماعيل بن أمية، قلت للزهري: إن عطاء يقول: تجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف. قال: السّنة أفضل، لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم سبوعاً قط إلا صلّى ركعتين.
فيه عمرو: وسألنا ابن عمر، أيقع الرجل على امرأته في العمرة، قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعاً، ثم صلى خلف المقام ركعتين. فطاف بين الصفا والمروة. وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. وسألت جابراً فقال: لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة. وترجم له باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام.
قلت: رضي الله عنك! ذكر طواف النبي صلى الله عليه وسلم سبوعاً، ثم صلاته ركعتين لسبوعه. وإن تلك عادته في كل أسبوع طافه أن يصلي له ركعتين. ساق هذا في ترجمة- الوقوف في الطواف-، تنبيهاً على أن الوقوف غير مشروع، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصل طوافه بصلاته. والوقوف لا يسمّى طوافاً. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الصلاة والطواف بالوقوف، وهما نوعان فكيف يفرق بين أجزاء الطواف بالوقوف؟ فافهم ذلك.

.باب فتل القلائد للبدن والبقر:

فيه حفصة: قلت: يا رسول الله! ما شأن الناس حلّوا، ولم تحلّ أنت؟ قال: إني لبدّت رأسي، وقلّدت هديي. فلا أحلّ حتى أحلّ من الحجّ.
وفيه عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب ما يجتنب المحرم.
قلت: رضي الله عنك! ذكر في الترجمة البدن والبقر، والحديث مطلق في الهدى. ولكن قد صح أنه صلى الله عليه وسلم قد أهداهما جميعاً. وورد أنهما ذبح البقر عن نسائه في حجة الوداع. وكل ما يذبح في الحج هدى. وقد قيل: إنه ذبح عنهن البقر هدياً لتمتع من تمتع منهن.

.باب الذبح قبل الهدى:

فيه ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حلق قبل أن يذبح: «لا حرج، لا حرج». وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: زرت قبل أن أرمي، قال: «لا حرج». وقال: رميت بعد ما أمسيت. قال: «لا حرج». قال: حلقت قبل أن أنحر، قال: «لا حرج».
وفيه أبو موسى: قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالبطحاء. فقال: «أحججت»؟
قلت: نعم:- الحديث إلى قول عمر رضي الله عنه:- وإن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدى محله.
قلت: رضي الله عنك! مقصود البخاري التنبيه على أن الترتيب المشروع تقديم الذبح على الحلق. ولهذا ترجم له. وساق هذه الأحاديث. ومن مضمونها أنه قال لمن حلق قبل أن يذبح: «لا حرج» وعبارة نفي الحرج إنما يكون حيث يتوقع الحرج، ولهذا سأل السائل. دلّ على أن الترتيب الذي لا يتخيّل فيه الحرج، ولا يشكل على أحد، ولا يسأل عنه عادة سائلٌ، هو الذبح قبل الحلق. وهذا استدلال بالمفهوم. أما قوله: فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يحل حتى بلغ الهدى محله. فاستدلال بمنطوق، أي لم يحلق حتى ذبح.

.باب الخطبة أيام منى:

فيه ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: «أيها الناس أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام. قال: «فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مراراً. ثم رفع رأسه فقال: «هل بلغت؟» مرتين قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: «فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
وقال جابر بن زيد عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات.
وفيه أبو بكرة. قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فذكر مثله سواء.
وفيه ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: «أتدرون أي يوم هذا؟» الحديث.
وقال هشام بن الغازي: أخبرني نافع عن ابن عمر: وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات، في الحجة التي حجّ بهذا. وقال: «هذا يوم النحر الأكبر». فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اشهد». وودّع الناس. فقالوا: هذه حجة الوداع.
قلت: رضي الله عنك! الأحاديث كلها مطابقة للترجمة، إلا حديث جابر عن ابن عباس، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات. فإن الترجمة إنما وقعت على الخطبة أيام منى، فما ساقها- والله أعلم- إلا ليردّ على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج. وإن الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الوصايا العامّة، لا على أنه خطبةٌ وشعارٌ من شعائر الحج. كما ذهب الطحاوي وابن القصار إليه. فردّ البخاري على من أنكر كونها خطبة بأن الراوي سماها خطبة، كما سمّى التذكرة يوم عرفة خطبة. وقد اتفقوا على خطبة عرفة، فألحق المختلف فيه بالمتفق عليه وإنما أنكر الطحاوي كونه خطبةً، وكونها من شعار الحج، لأنه لم يذكر في يوم النحر إلا تحريم الدماء، والأموال، والأعراض. وهذا أجنبي عن الحج. وهو وهم من الطحاوي، فإنه صلى الله عليه وسلم نبّه على عظم اليوم، وبيّن أنه يوم النحر الأكبر. وهذا من مهمات الحجّ.
وفيه إشعار أن المناسك التي فيه من المهمات كالرمي والإفاضة، وغير ذلك.
وفيه يتّم الحج.

.كتاب فضائل المدينة:

.باب ما جاء في حرم المدينة:

فيه أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث. من أحدثه فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين».
وقال أنس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأمر ببناء المسجد. فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا نطلب ثمنه، إلا إلى الله. فأمر بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسوّيت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد.
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حرّم ما بين لابتي المدينة على لساني». وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة فقال: «أراكم يا بني حارثة! قد خرجتم من الحرم»، ثم التفت فقال: «بل أنتم فيه».
وفيه علي: ما عندنا إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، «المدينة حرم ما بين عير إلى... من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين. لا يقبل منه صرف ولا عدل». الحديث.
قلت: رضي الله عنك! الذي وقع في الأمهات ما بين عير إلى- وسكت في النهاية-. وقد نقل من طريق آخر ما بين عير إلى ثور. والظاهر أن البخاري أسقطها عمداً، لأن أهل المدينة ينكرون أن يكون بالمدينة جبل يسمى ثوراً. وإنما هو بمكة. فلما تحقق عند البخاري أنه وهم، أسقطه. وذكر بقية الحديث. وهو مفيد إذ البداءة يتعلق بها حكم فلا يترك لإشكال سنح في حكم النهاية.